الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
الطويل نحابي بها أكفاءنا ونهينه *** ونشرب في أثمانها ونقامر على أن في قيل: إنها بمعنى الباء في البيت، أي: ونشرب بأثمانها. والأولى أيضاً أن تكون على معناها بجعل أثمانها ظرفاً للشراب والقمار مجازاً. والبيت آخر أبيات أربعة لسبرة بن عمرو الفقعسي، أوردها أبو تمام في الحماسة. وهي: أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلم *** وقد سال من نصر عليك قراقر ونسوتكم في الروع باد وجوهه *** يخلن إماء والإماء حرائر أعيرتنا ألبانها ولحومه *** وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر تحابي بها أكفاءن ***... ....... .... البيت قوله: أتنسى دفاعي إلخ ، استفهام توبيخي، يخاطب ضمرة بن ضمرة النهشلي. وإذ: ظرف لدفاعي، أي: لم تنس مدافعتي عنك حين كنت مخذولاً لا ناصر معك. ومسلم: اسم مفعول من أسلمته بمعنى خذلته، وهو أن تخلي بينه وبين من يريد النكاية فيه. قوله: وقد سال من نصر إلخ ، رواه شراح الحماسة: وقد سال من ذل، قال المرزوقي وغيره: قُراقر بضم القاف الأولى: اسم واد، ويكون ذكره مثلاً. ومن كلامهم: سال عليه الذل، كما يسيل السيل. ولا يمتنع أن يكون لحقه، ما لحقه من الذل من ناحية قراقر، فلذلك خصه، والجملة حال. انتهى. وأول من حرفه أول شارح للحماسة، وهو أبو عبد الله النمري، قال: يقول: سال هذا الوادي عليك، فلم تستطع الانتقال عنه ذلاً وضعفاً. ورد عليه أبو محمد الأسود الأعرابي فيما كتبه على شرح النمري، وقال: الصواب: وقد سال من نصر، يعني نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. يقول: دافعتهم عنك حين سال الوادي بهم عليك. كما قال الآخر: الطويل ونحن أسلنا مصعداً بطن حائل *** ولم ير واد قبله سال مصعدا يعني: أنهم أسالوه بالرجال. ولبيت سبرة قصة طويلة الذيل ذكرتها في كتاب السلة والسرقة. انتهى. أقول: قد ذكرها في ضالة الأديب أيضاً ونحن نذكرها. إن شاء الله بعد الأبيات. وقوله: ونسوتكم في الروع إلخ ، هذه الجملة معطوفة على جملة الحال السابقة. قال المرزوقي: وصف الحال التي مني بها حين نصره مخاطبه. والمراد: ونساؤكم تشبهن بالإماء مخافة السبي، حتى تبرجن وبرزن مكشوفات ناسيات للحياء، وإن كن حرائر. وإنما قال هذا لأنهم كانوا يقصدون بسبي من يسبون من النساء إلحاق العار، لا اغتنام الفداء والمال. ولما كان الأمر على هذا، فالحرة كانت في مثل ذلك الوقت تتشبه بالأمة لكي يزهد في سبيها. ومعنى والإماء حرائر: واللاتي يحسبن إماء حرائر. ولو قال: يخلن إماء وهن حرائر لكان مأخذ الكلام أقرب، لكنه عدل إلى: والإماء حرائر، ليكون الذكر أفخم. وقوله: أعيرتنا ألبانها.... إلخ، استفهام للإنكار والتقريع، أي: لم عيرتنا ألبان الإبل ولحومها، واقتناء الإبل مباح، والانتفاع بلحمها وألبانها جائز ديناً وعقلاً. وقوله: وذلك عار ظاهر، أي: زائل. قال أبو ذؤيب: الطويل وعيرها الواشون أني أحبه *** وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ويقال: عيرته كذا، وهو الأفصح، وعيرته بكذا. قال عدي: أيها الشامت المعير بالدهر والواو للحال، أي: أتعيرنا ذلك والحال ذلك. وقوله: نحابي به إلخ ، قال المرزوقي: بين وجوه تصرفهم فيما عيرهم به، فقال: نجعلها حباء لنظرائنا فنتهادى بها، ونسهل تمكن الزوار والعفاة منها، بابتذالها وإهانتها - وحذف ذكر من أهينت له لأن المراد مفهوم - ونبيعها فنصرف أثمانها إلى الخمر والإنفاق، ونضرب بالقداح عليها في الميسر عند اشتداد الزمان، فنفرقها في الضعفاء والمحتاجين. وفي تعداد هذه الوجوه إبطال لكل ما أوهم أن يلحق من العار في اقتنائها وادخارها. انتهى. قال ابن الشجري في أماليه: حابى: بارى، يقال: حابيت فلاناً، أي: باريته في الحباء، مثل باهيته في العطاء، كما يقال: كارمته، أي: باريته في الكرم. فقوله: تحابي بها أكفاءنا، لا يكون إلا بمعنى نباريهم في الحباء. وقد ورد أحابي في شعر زهير بمعنى أخص، وذلك في قوله: الطويل أحابي به ميتاً بنخل وأبتغي *** إخاءك بالقيل الذي أنا قائل قالوا: أراد أحابي بهذا الشعر ميتاً بنخل، يعني بالميت أبا الممدوح، أي: أخصه به. ونخل: أرض بها قبره. وذهب ابن جني في قول المتنبي: الطويل وإن الذي حابى جديلة طيئ *** به الله يعطي من يشاء ويمنع إلى أن حابى بمعنى حبا، مأخوذ من الحباء وهو العطية، واسم الله مرتفع به، أي: إن الذي حبا الله به جديلة يعطي، فالجملة التي هي يعطي، وفاعله خبر إن. وخولف في هذا القول: على أن عليه أكثر مفسري شعر المتنبي. والذي رد عليه قال: إن حابيته بكذا، بمعنى حبوته به ليس بمعروف. فعلى هذا القول يكون فاعل حبا مضمراً فيه يعود على الذي، واسم الله مرفوعاً بالابتداء، وخبره الجملة التي هي يعطي وفاعله ومفعوله. أي: إن الذي بارى جديلة في الحباء الله يعطي به من يشاء. ومفعول بمنع محذوف دل عليه مفعول يعطي، ومفعول يشاء المذكور ويشاء المحذوف محذوفان. فالتقدير: يعطي الله به من يشاء أن يعطيه. ويمنع به من يشاء أن يمنعه. على أن المضمرين في يعطيه ويمنعه يعودان على الممدوح. والمعنى أنه ملك قد فوض الله إليه أمر الخلق في الإعطاء والمنع. فالمدح على هذا يتوجه إليه وإلى عشيرته: لأن المباراة في العطاء أنهم يعطون، فيعطي مباهياً لهم بعطائهم. والمعنى في قول ابن جني أن الذي حبا الله به جديلة بأن جعله منهم، يعطي من يشاء إعطاءه، ويمنع من يشاء منعه؛ لأنه يعطي تكرماً لا قهراً، ويمنع عزة لا بخلاً. وأقول: إن أصل فاعلته أن يكون من اثنين فصاعداً، وإن فاعله مفعول في المعنى، ومفعوله فاعل في المعنى، كخاصمته وسابقته. ولم يأت من واحد إلا في أحرف نوادر كطارقت النعل، وعاقبت اللص، وعافاك الله، وقاتلهم الله. فابن جني ذهب بقولهم: حابيت زيداً مذهب هذه الألفاظ الخارجة عن القياس. وقد جاء حابى بمعنى حبا في قول أشجع بن عمرو السلمي، يمدح جعفر بن يحيى البرمكي، حين ولاه الرشيد خراسان: السريع إن خراسان وإن أصبحت *** ترفع من ذي الهمة الشانا لم يحب هارون بها جعفر *** لكنه حابى خراسانا أي: لم يحب جعفراً بخراسان، ولكن حبا خراسان بجعفر. فهذا يعضد قول ابن جني. وهذه قصة سبرة الفقعسي مع ضمرة بن ضمرة من ضالة الأديب لأبي محمد الأعرابي، قال: إن ضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل، وكان جاراً لنوفل بن جابر بن شجنة بن حبيب بن مالك بن نصر، وأم نوفل عاتكة بنت الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين. وكان ضمرة كثير المقامرة، فنحر نوفل جزوراً فدعا الحي فأكلوا، فدعا ضمرة، فقال: يا معشر بني قعين هذا جاركم وأنا منه خلو. ثم إن ضمرة قامر، فقمر ماله كله، وانتجعت أسد نحو أرض بني تميم، وهم مقحمون مضعفون، فأرسل ضمرة إلى من يليهم من بني تميم أن ميلوا عليهم، فإنهم لأول من أتاهم. فأتى بني نصر الخبر فانصرفوا وأتمروا بضمرة أن يأكلوه حين ينزلون، فأمر نسوته سراً أن يتأخرن، ويلحقن بظعن بني فقعس، وسار هو في سلف بني نصر، وقد علم أنهم آكلوه، إذا نزلوا، فلما نزلوا ركض نحو بني فقعس، فقال: أنا جار لكم: فقالوا: إنك لست بجار، ولك أمان العائذ الغادر، ومنعوه من بني نصر، وإذا ماله في بني نصر قد أحرزوه. فلما جاءت ظعن بني فقعس إذا نسوته فيهن، فعدل له بنو فقعس خمسين شائلة ونحروا الجزور، وكان فيهم زماناً، ثم لحق بقومه. فنافر معبد بن نضلة بن الأشتر بن حجوان، خالد بن وهب الصيداوي، وجمعهما وضمرة مجلس النعمان، فأرسل ضمرة إلى خالد: نافره، واجعلني الكفيل، وهو بيني وبينك نصفين، فإنه لا يخافني، واجعلهما مائة في مائة في خفرة النعمان واجعل بينكما بها رهناً؛ فإنه لا بد من أدائها إذا كنت أنا الكفيل. فلما راحوا إلى النعمان سب خالد معبداً، فقال: أتسابني، ولم تنافرني. قال: أنافرك. قال: ما بدا لك. قال خالد: إني أجعل الكفيل من شئت، وإن شئت ولي نعمتكم هذا. قال معبد: فإني قد فعلت. واعتقد عليه بما أمره به ضمرة، ثم تغاديا على ضمرة، فقال ضمرة: والله إن بني طريف لمن أكرم الناس، وما رأينا قط أكرم من خالد. فنفره على معبد في مجلسه، فحبس قيس بن معبد عند النعمان رهينة بمائة من الإبل، فقال معبد لبني جابر بن شجنة: اكفلوني يا بني عمي، فإني لم يشني غدر ضمرة، ولا كذبه. قال بنو جابر: ترى بني فقعس مقرين بهذا؟ قال: نعم، يرون أنها خيانة، ولا تضرهم. فكفل بنو جابر الإبل، فلما أتى معبد بني فقعس، قال بنو دثار وبنو نوفل بن فقعس: والله ما نرضى بهذا أبداً ما بقي منا إنسان. فنهضت بنو فقعس إلى النعمان، فوجدوا عنده ضمرة، فقال سبرة بن عمرو بن الحارث بن دثار ابن فقعس بن طريف: الرجز إني لمن أنكر وجهي سبرة *** الرجل الأشم فيه الزعره كالميسم الحامي عليه الغبره إلى أن قال: والله ما نعقل منها بكره *** ويأمر النعمان فيها أمره فأمرهم النعمان أن يقاضوا إلى العزى: صنم كان بنخلة. فعندها قال سبرة: الطويل أضمر بن ضمر أبلق الاست والقف *** وهل مثلنا في مثلها لك غافر أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلم *** وإذ سال من نصر عليك قراقر ونسوتكم في الروع باد وجوهه *** يخلن إماء والإماء حرائر يسلخن بالليل الشوي بأذرع *** كأيدي السباع والرؤوس حواسر وعيرتنا ألبانها ولحومه *** وذلك عار يا بن ريطة ظاهر وإنا لتغشانا حقوق ولم تكن *** تقربنا للمخزيات الأباعر نحابي بها أكفاءنا ونهينه *** ونشرب في أثمانها ونقامر وتكسبها في غير غدر أكفن *** إذا عقدت يوم الحفاظ الدوابر وإنا لنقري الضيف في ليلة الشت *** عظيم الجفان فوقهن الحوائر جمع الحوير، وهو الشحم الأبيض. وبعد هذا ثلاثة أبيات أخر. ثم أورد لسبرة الفقعسي أشعاراً كثيرة، يخاطب بها ضمرة ويهجوه بها. وفي سياقه هذا نقص فإنه لم يذكر فيه وجه تعييره بالإبل، ولا إلى أي شيء تم حالهما. والله أعلم. وسبرة: شاعر جاهلي. وذكر نسبه فيما سقناه. وترجمة ضمرة تقدمت في الشاهد الثامن والثمانين. وأنشد بعده: الخفيف ما بكاء الكبير بالأطلال على أن الباء فيه للظرفية، أي: في الأطلال. وهذا صدر، وعجزه: وسؤالي وما يرد سؤالي وهذا مطلع قصيدة للأعشى ميمون، مدح بها الأسود بن المنذر اللخمي، أخا النعمان بن المنذر، وسيأتي بعض منها في رب. وبعده: الخفيف دمنة قفرة تعاورها الصي؟ *** يف بريحين من صباً وشمال لات هنا ذكرى جبيرة ومن *** جاء منها بطائف الأهوال أراد بالكبير نفسه، وعذلها بالوقوف على الأطلال وسؤاله إياها، ثم رجع، وقال: وما ترد سؤالي؟ يقول: ما بكاء شيخ كبير مثلي في طلل. والطلل: ما شخص من بقايا المنزل. والدمنة: ما اجتمع من التراب والأبعار وغير ذلك. فتعاوره الصيف بريحين مختلفين، وهما الصبا ومهبها من ناحية المشرق، والشمال ومهبها من القطب الشمالي إلى الجنوب. والجنوب من رياح اليمن. قال أبو علي في كتاب الشعر: اعلم أن قوله: سؤالي بعد قوله: ما بكاء الكبير حمل للكلام على المعنى، وذلك أن الكبير لما كان المتكلم في المعنى حمل سؤالي عليه. ألا ترى أن ما بكاء الكبير، إنما هو ما بكائي وأنا كبير، وبكاء الكبير بالأطلال، مما لا يليق به، لأنه اهتياج لصب وتصاب، وذلك مما لا يليق بالكبير. ومن ثم قال الآخر: الطويل ؟أتجزع إن دار تحمل أهله *** وأنت امرؤ قد حملتك العشائر فحمل سؤالي على المعنى. فأما قوله: وما يريد سؤالي دمنة قفرة فإن ما تحتمل ضربين: أحدهما: أن تكون استفهاماً في موضع نصب، كأنه قال: أي شيء يرجع عليك سؤالك من النفع؟ وقد يقول: عاد علي نفع من كذا، ورد علي كذا نفعاً، ورجع علي منه نفع. ويكون دمنة منتصباً بالمصدر الذي هو سؤالي. والبيت على هذا مضمن. والآخر: أن يكون نفياً كأنه قال: ما يرد سؤالي، أي: جواب سؤالي دمنة، فالدمنة فاعل قوله: ترد. ومثل هذا قوله: وقمنا فسلمنا فردت تحية إنما هو جواب تحية. وكذلك قوله سبحانه: فحيوا بأحسن منه وردوها ، أي: ردوا جوابها. وقد قيل في قوله: فردت تحية قولان: أحدهما: ردت التحية، أي: لم تقبلها. والآخر: ردت تحية، أي: جوابها، كما تقدم. وذلك لما رأينا في وجهها من البشاشة، وإن لم تتكلم. فالتقدير: وما يرد جواب سؤالي دمنة. والبيت على هذا مضمن أيضاً، لأن الفاعل الذي هو دمنة فعله في البيت الذي هو قبل البيت الثاني. فيجوز أن يقول: وما ترد، فيؤنث على لفظ الدمنة، ويذكر على المعنى. انتهى. وقال ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكاتب: وسؤالي فهل ترد سؤالي، ويروى: فما ترد ولا ترد. ويروى: بالتاء والياء. فمن روى فهل ترد على لفظ التأنيث رفع الدمنة وجعلها فاعلاً، وجعل سؤالي مفعولاً بتقدير مضاف، أي: فهل ترد جواب سؤالي دمنة. ومن روى: فهل يرد بلفظ التذكير نصب دمنة مفعولاً، وجعل سؤالي فاعلاً ومعناه: إن سؤالي لا يرد الدمنة إلى ما كانت عليه. ومن روى: وما، واعتقد أنها نفي جاز أن يقول ترد بلفظ التأنيث ويرفع الدمنة لا غير، وجاز أن يقول: يرد بلفظ التذكير، وينصب الدمنة إن شاء، ويرفعها إن شاء. ون اعتقد أن ما استفهام، قال: يرد، على لفظ التذكير، وجعل ما في موضع نصب بيرد، وسؤالي في موضع رفع، ونصب دمنة بسؤالي لا غير. ومن روى: ولا يرد سؤالي على لفظ التذكير نصب الدمنة، وإن شاء رفعها. ومن روى: ولا ترد على لفظ التأنيث رفع الدمنة لا غير. ثم قال ابن السيد: ورويت في هذا البيت حكاية مستظرفة رأيت إثباتها في هذا الموضع. روى نقله الأخبار أن طليحة الأسدي كان شريفاً، وكان يفد على كسرى فيكرمه، ويدني مجلسه. قال طليحة: فوفدت عليه مرة، فوافقت عيداً من أعياد الفرس، فحضرت عند كسرى في جملة من حضر من أصحابه، فلما طعمنا وضع الشراب فطفقنا نشرب، فغنى المغني: البسيط لا يتأرى لما في القدر يطلبه فقال كسرى لترجمانه: ما يقول؟ ففسره له فقال كسرى: هذا قبيح. ثم غناه المغني: الوافر أتتك العيس تنفخ في براها فقال كسرى لترجمانه: ما يقول؟ فقال: لا أدري. فقال بعض جلسائه: شاهانشاه، أشتراف أف معناه: يا ملك الملوك هذا جمل ينفخ. واشتر بلغتهم: الجمل، وأف: حكاية النفخ. قال طليحة: فأضحكني تفسيره العربية بالفارسية. قال: ثم غناه المغني بشعر فارسي لم أفهمه، فطرب كسرى، وملئت له كأس، وقام فشربها قائماً، ودارت الكأس على جميع الجلساء. قال طليحة: وكان الترجمان إلى جانبي فقلت له: ما هذا الشعر الذي أطرب الملك هذا الطرب؟ فقال: خرج يوماً متنزهاً فلقي غلاماً حسن الصورة، وفي يمينه ورد، فاستحسنه وأمر أن يصنع له فيه شعر، فإذا غناه المغني ذلك الشعر طرب وفعل ما رأيت. فقلت: ما في هذا مما يطرب حتى يبلغ فيه هذا المبلغ؟ فسأل كسرى الترجمان عما حاورني فيه، فأخبره، فقال: قل له: إذا كان هذا لا يطرب فما الذي يطربك أنت؟ فأدى إلي الترجمان قوله فقلت: قول الأعشى: ما بكاء الكبير بالأطلال البيت فأخبره الترجمان بذلك، فقال كسرى: وما معنى هذا؟ فقلت: هذا شيخ، مر بمنزل محبوبته، فوجده خالياً، قد عفا وتغير، وجعل يبكي. فضحك كسرى، وقال: وما الذي يطربك من شيخ واقف في خربة، وهو يبكي، أوليس الذي أطربنا نحن أولى بأن يطرب له؟ قال طليحة: فثقل عليه جانبي بعد ذلك. وقوله: لات هنا ذكري جبيرة، بضم الجيم: اسم امرأة، وهو من شواهد النحويين، وتقدم توجيهه في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائتين. وأنشد بعده: الكامل غلب تشذر بالدخول وهو قطعة من بيت، وهو: غلب تشذر بالدخول كأنه *** جن البدي رواسياً أقدامها على أن الباء فيه للسبية. قال الزوزني في شرح معلقة لبيد: يقول: هم رجال غلاظ الأعناق، كالأسود، أي: خلقوا خلقه الأسود، ويهدد بعضهم بعضاً بسبب الأحقاد التي بينهم. ثم شبههم بجن هذا الموضع في ثباتهم في الخصام والجدال. يمدح خصومه، وكلما كان الخصم أقوى، وأشد كان غالبه أقوى وأشد. والبيت من معلقة لبيد الصحابي، وقبله: وكثيرة غرباؤها مجهولة *** ترجى نوافلها ويخشى ذامها وبعده: أنكرت باطلها وبؤت بحقه *** عندي ولم يفخر علي كرامها قوله: وكثيرة الواو واو رب، وجوابها: أنكرت باطلها، قال ابن السيد في شرح أدب الكاتب: يريد قبة ملك فيها قوم غرباء من كل قبيلة؛ فاخروه بين يدي الملك، فغلبهم وظهر عليهم. وقوله: مجهولة أراد مجهول من فيها ولم يرد أن القبة نفسها مجهولة. والنافلة: الفضل. والذم: العيب والعار. يريد أن من حضرها، يرجو أن يكون له الظهور والشرف، ويرهب أن يغلب ويظهر عليه، فيكون ذلك عاراً يبقى في عقبه، فهو لذلك يذب عن نفسه، ولا يدع غاية من المفاخرة إلا قصدها. وشبههم بجمال غلب تشذر بأذنابها إذا تصاولت وهاجت. يقال: تشذر البعير بذنبه، إذا استنفر به وتشذر الرجل بثوبه عند القتال، إذا تحزم، وتهيأ للحرب. والغلب: الغلاظ الأعناق، الواحد أغلب. والبدي: واد تسكنه الجن فيما يزعمون. والرواسي: الثابتة التي لا تبرح، والأصل: مجهولة غرباؤها، فحذف المضاف، وأقام الضمير المضاف إليه مقامه فاستتر في الصفة. انتهى. وما ذهب إليها من أن المراد بكثيرة قبة الملك هو الراجح الصحيح، وهو قول الزوزني، قال: المعنى رب قبة ودار كثرت غرباؤها وغاشيتها وجهلت، لا يعرف بعض الغرباء بعضا. افتخر بالمناظرة التي جرت بينه وبين الربيع بن زياد في مجلس النعمان بن الأسود ملك العرب، ولها قصة طويلة. أقول: قد ذكرتها أنا في ترجمة النعمان بن المنذر في الشاهد الخامس والخمسين بعد المائة، وستأتي في رب أيضاً. وكذا ذهب إلى هذا أبو الحسن الطوسي في شرح ديوان لبيد، قال: يعني قبة كانت تضرب على باب الملك يقعد فيها الناس حتى يؤذن لهم. ونوافلها: فضول من شرف وجوائز ومنازل. يخشى سقاط من كلام وفعل، يلحقه منه ذام، أي: عيب. وأنهم يرجعون بغير جائزة فيكون ذلك عيباً عليهم. وفيها أقوال آخر: أحدها: أن المعنى وجماعة كثيرة غرباؤها. وإليه ذهب الجواليقي في شرح أدب الكاتب، قال: أي: رب جماعة كثيرة غرباؤها. ثم حذف الموصوف، وأقام الصفة مقامه. هذا أصح ما قيل فيه. ثانيها: أن المعنى رب خطة وشأن قد جهل القضاء فيها وجهلت جهاتها. ثالثها: أن المعنى رب حرب كثيرة غرباؤها، لأن الحرب مؤنثة. وجعلها كثيرة الغرباء، لما يحضرها من ألفاف الناس وغيرهم. وجعلها مجهولة لأن العالم بها، والجاهل يجهلان عاقبتها. وقوله: ترجى نوافلها، أي: الغنيمة والظفر. ويخشى ذامها، أي: خلافها. رابعها: أن المعنى رب أرض كثيرة غرباؤها، يريد: أرضاً يضل بها من سلكها إذا جهل طرقها. قال أبو جعفر، والجواليقي، والخطيب: وإنما وقع الاختلاف في ذلك أنه أقام الصفة مقام الموصوف، فاحتمل هذا المعاني، إلا أن الأشبه بما يرد الجماعة، لأن بعده: أنكرت باطلها وبؤت بحقها وإقامة الصفة مقام الموصوف في مثل هذا قبيح، لما يقع به من الإشكال. ألا ترى أنك لو قلت: مررت بجالس كان قبيحاً، ولو قلت: بظريف كان حسناً. وغرباؤها مرفوع بكثيرة، أي: كثرت غرباؤها. وقوله: غلب تشذر إلخ ، هو خبر لمبتدأ محذوف هو ضمير الغرباء، أي: هم غلب، جمع أغلب، والأنثى غلباء. قال الطوسي: غلب: أسد غلاظ الرقاب. وقال ابن السيد: شبههم بالإبل. وعليهما فهو استعارة تصريحية. وتشذر، أصله تتشذر بالذال المعجمة. وفيه أقوال: أحدها: أن التشذر رفع اليد ووضعها، أي: إنهم كانوا يفعلون ذلك، إذا تفاخروا وتثالبوا. وإليه ذهب الجاحظ في كتاب البيان والتبيين، قال: كانت العرب تخطب بالمخاصر، وتعتمد على الأرض بالقسي، وتشير بالعصي والقني. وقال لبيد في الإشارة: غلب تشذر بالذحول ... ***.... البيت وقيل: التشذر: الإيعاد، أي: يوعد بعضهم بعضاً. وحكى ابن السكيت: تشذرت الناقة. إذا شالت بذنبها. وقال الطوسي: التشذر من الفحل بالذنب تغضب وإيعاد. ومن هنا قال ابن السكيت: شبههم بالإبل. وروى: غلب تشازر بتقديم المعجمة. وتشازرهم: نظر بعضهم إلى بعض بمؤخر عينه. والذحول: جمع ذحل، بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة، وهو الحقد. وجملة: كأنها جن حال من ضمير غلب في تشذر. والبدي بفتح الموحدة وكسر الدال المهملة وتشديد الياء من غير همز، قال أبو عبيد: البادية، حكاه عنه الطوسي. وكذا قال أبو جعفر، والخطيب. وقال ابن السيد: واد تسكنه الجن. وقال ابن الأنباري: هو واد لبني عامر، وقيل: موضع. وقال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم: واد لبني عامر. وقال أبو حاتم عن الأصمعي: واد لبني سعد. وذكره أبو عبيد أحمد بن محمد بن الهروي مهموزاً، وذلك أنه ذكر حديث ابن المسيب في حريم البئر، فقال: البديء البئر التي ابتدئت، فحفرت وليست عادية. قال: والبدي في غير هذا الموضع: بلد تسكنه الجن. فإن كان هذا الذي ذكره الهروي صحيحاً فهو موضع آخر، والله أعلم، لأن البدي المذكور في الشواهد آهل يسكنه الناس ويرعونه. أقول: قول الهروي: والبدي في غير هذا الموضع: بلد، يريد: غير مهموز، بدليل أن كلامه في المهموز، وقول البكري آهل يسكنه الناس يريد عليه بيت هذه المعلقة. ورواسياً حال من اسم كان، لأنه في المعنى مفعول لأشبه، وصرفه للضرورة. وأقدامها فاعل رواسي، جمع قدم. وقوله: أنكرت باطلها.... إلخ، هذا جواب رب. قال الزوزني: باء بكذا: أقر به، ومنه قولهم في الدعاء: أبوء لك بالنعمة. يقول: أنكرت باطل دعاوي تلك الرجال الغلب، وأقررت بما كان حقاً منها عندي، أي: في اعتقادي، ولم تفخر علي كرامها، أي: ولم يغلبني بالفخر كرامها، من قولهم: فاخرته ففخرته، أي: غلبته بالفخر. وكان ينبغي أن يقول: ولم تفخرني كرامها، ولكنه ألحق علي حملاً على معنى: ولم تتعال علي، ولم تتكبر علي. قاله الزوزني. وأنشد بعده: الرجز نضرب بالسيف ونرجو بالفرج على أن الباء الثانية زائدة في المعفول به سماعاً. قال ابن عصفور في الضرائر: وزيادة الباء هنا ضرورة. قال ابن السيد في شرح أدب الكاتب: إنما عدى الرجاء بالباء، لأنه بمعنى الطمع، والطمع يتعدى بالباء، كقولك: طمعت بكذا. قال الشاعر: الطويل طمعت بليلى أن تجود وإنم *** تقطع أعناق الرجال المطامع اه؟. وقال في شرح أبياته: وزاد يعقوب قبله: نحن بني جعدة أرباب الفلج ونحن: مبتدأ، وأرباب: خبره، وبني جعدة: منصوب على الاختصاص، وروي بالرفع أيضاً. والفلج بفتح الفاء واللام. قال أبو عبيد في معجم ما استعجم: موضع لبني قيس، وهو في أعلى بلاد قيس. قال الراجز: نحن بنو جعدة أرباب الفلج *** نضرب بالبيض ونرجو بالفرج وأصله النهر الصغير. انتهى. والبيض، بالكسر: السيوف، أي: نقاتل بالسيوف. وقال ياقوت في معجم البلدان: الفلج مدينة بأرض اليمامة لبني جعدة وقشير ابني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصة، كما أن حجراً مدينة بني ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. قال الجعدي: نحن بنو جعدة أرباب الفلج *** نحن منعنا سبله حتى اعتلج والفلج في اللغة: الماء الجاري، ويقال: عين فلج، وماء فلج. قال أبو عبيد: الفلج: النهر. انتهى. وقال ابن السيد: الفلج الجاري من العين. والفلج: البئر الكبير، عن ابن كناسة. وماء فلج: جار، قال عبيد: مخلع البسيط وفلج ما ببطن واد *** للماء من تحته قسيب انتهى. وتوهم الدماميني في شرح المغني أن الفلج هنا بمعنى الظفر. قال: والظاهر أن المراد بالفلج: الظفر والفوز، لكن لم يحك صاحب الصحاح غير سكون اللام، فيحتمل أن يكون الشاعر فتحها اتباعاً لفتحة الفاء للضرورة. هذا كلامه. وتبعه الحلبي في شرحه ونقل كلامه، وزاد عليه بأن صنيع صاحب القاموس أيضاً يقتضي سكون اللام. وتبعه شيخنا الشهاب الخفاجي أيضاً في شرح درة الغواص، وتعقبه: بأن فتح اللام لغة أصلية فيه، وتوقفه من عدم الإطلاع. ثم نقل من شرح مقامات الزمخشري له ما يؤيد كونه بالفتح. والمشهور: نحن بنو ضبة، وهو من تغيير النساخ، والذي فيه ضبة قافية لامية، وهو: الرجز نحن بنو ضبة أصحاب الجمل وآخره: ردوا علينا شيخنا ثم بجل وهذا من أبيات المفصل، وهو مما قيل في يوم الجمل، وهو مذكور في الحماسة وغيرها، وقائله معلوم مذكور. وقوله: نحن منعنا سبله هو جمع سبيل، وهو الطريق. واعتلجت الأرض: طال نباتها. وهذا الرجز لم ينسبه أحد إلى قائله. والله أعلم. وأنشد بعده: الطويل ولكن أجراً لو فعلت بهين *** وهل ينكر المعروف في الناس والأجر على أن الباء تزاد سماعاً بقلة في خبر لكن. قال ابن جني في سر الصناعة: وقد زيدت في خبر لكن لشبهه بالفاعل. وأنشد البيت، وقال: أراد ولكن أجراً لو فعلته هين. وقد يجوز فيه أن يكون معناه: ولكن أجراً لو فعلته بشيء هين، أي: أنت تصلين إلى الأجر بالشيء الهين، كقولك: وجوب الشكر بالبر الهين. فتكون الباء على هذا غير زائدة. انتهى. وأفاد في تفسيره أن الخطاب لمؤنث. ولم أفق على تتمته، ولا على قائله. والله أعلم. وأنشد بعده: الطويل ألا هل أتاها والحوادث جمة *** بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا على أن الباء قد تزاد بقلة مع أن الواقعة مع معموليها في تأويل مصدر مرفوع على أنه فاعل أتاها. وقال ابن السيرافي في شرح أبيات الغريب: فاعل أتاها يجوز أن يكون مضمراً دل عليه معنى الكلام، كأنه قال: هل أتاها الخبر. ولكثرة استعمال الخبر أضمر، ويكون: بأن امرأ القيس في موضع نصب. هذا كلامه. ولا مفهوم لقوله مع أن، فكان ينبغي أن يقول، وتزاد بقلة في الفاعل في غير ما ذكر قياساً. وهذا عند ابن عصفور وغيره ضرورة. ومن زيادتها في الفاعل ضرورة بدون أن قوله: الوافر ألم يأتيك والأنباء تنمي *** بما لاقت لبون بني زياد فالباء في بما زائدة، وما: فاعل يأتيك. وقال ابن الضائع: الباء متعلقة ب؟ تنمي، وإن فاعل يأتي مضمر، والمسألة من التنازع. ومن ذلك: السريع مهما لي الليلة مهما ليه *** أودى بنعلي وسرباليه التقدير: أودى نعلاي. وقال ابن الحاجب: الباء للتعدية. وتقدم شرحهما مفصلاً. ومن ذلك قول النمر بن تولب: الكامل ظهرت ندامته وهان بسخطه *** شيئاً على مربوعها وعذارها التقدير: هان سخطه. قال ابن عصفور: وبالجملة لا تنقاس زيادة الباء في سعة الكلام إلا في خبر ما، وخبر ليس، وفاعل كفى ومفعوله، وفاعل أفعل بمعنى ما أفعله. وما عدا هذا المواضع لا تزاد فيه الباء إلا في ضرورة شعر، وشاذ من الكلام يحفظ، ولا يقاس عليه. انتهى. ولقد أجاد ابن هشام في المغني في تحرير زيادة الباء. والبيت من قصيدة طويلة لامرئ القيس، قالها بعد أن ذهب إلى الروم مستنجداً بقيصر للأخذ بثأر أبيه. وأولها: سما لك شوق بعدما كان أقصر *** وحلت سليمى بطن ظبي فعرعرا إلى أن قال: ألا هل أتاها والحوادث جمة ... *** البيت قوله: سما لك إلخ ، سما: علا وارتفع. وأقصر: كف. وحلت: نزلت. وبطن ظبي: موضع، ويقال: ماء من مياه كلب. وعرعر: واد. وقوله: ألا هل أتاها الضمير لحبيبته. وقوله: والحوادث جمة، أي: كثيرة، جملة اعتراضية بين الفعل وفاعله. وأورده الزمخشري عند قوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً على أنها جملة اعتراضية كقول امرئ القيس: والحوادث جمة، وفائدة الاعتراض الإخبار بأن هجرته عن بلاده حادثة من الحوادث. والعرب تتمدح بالإقامة في البدو، قال أبو العلاء: البسيط ويوقدون بنجد نار بادية *** لا يحضرون وفقد العز في الحضر قال أبو عبيد في الغريب المصنف: بيقر الرجل بيقرة، إذا هاجر من أرض إلى أرض. وأنشد هذا البيت. وقال الجوهري: بيقر الرجل: أقام بالحضر، وترك قومه بالبادية. وأنشد هذا البيت. وقال ابن دريد: بيقر الرجل، إذا خرج من الشام إلى العراق. ولم يذكر ابن جني في شرح تصريف المازني غير هذا. وأنشد له البيت، والواقع يخالفه. وتملك بفتح المثناة الفوقية: اسم امرأة، لا ينصرف. قال شارح ديوانه: تملك: بعض أمهاته. قال صاحب الأغاني: أم امرئ القيس فاطمة بنت ربيعة، أخت كليب ومهلهل ابني ربيعة. وأم امرئ القيس بن السمط اسمها تملك بنت عمرو بن ربيعة بن زبيد ابن مذحج، رهط عمرو بن معد يكرب. وقد ذكر ذلك امرؤ القيس، فقال: بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا انتهى. ومثله في مختصر الجمهرة لياقوت وغيره، قالا: ومن بني امرئ القيس بن عمرو بن معاوية السمط، وأمه تملك بنت عمرو، من مذحج، هم التملكيون، بها يعرفون. وامرؤ القيس بن السمط بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر الذي يقول فيه امرؤ القيس بن حجر: يأن امرأ القيس بن تملك بيقرا نسبه إلى جدته تملك. انتهى. وكذا قال العسكري في كتاب التصحيف عند ما ذكر المسلمين بامرئ القيس. وهذا خلاف ما ذكره شراح شعره من أنه أراد نفسه. وهو الأغلب على الظن. فمنهم من قال: أمة تملك، ومنهم من قال: جدته. ويحتمل أن تكون جدته من قبل أمه، وأمهاتها. والله أعلم. وقد ذكرنا أبياتاً كثيرة من هذه القصيدة، وذكرنا أيضاً طرفاً من حال امرئ القيس في الشاهد السابع والستين بعد الستمائة. وأنشد بعده: الطويل فأصبحن لا يسألنه عن بما به *** أصعد في علو الهوى أم تصوبا على أنه من الغريب زيادة الباء في المجرور، فإنها زيدت مع ما المجرورة ب؟ عن. قال ابن جني في سر الصناعة: وأما قول الشاعر: فأصبحن لا يسألنه عن بما به فإنه أراد الباء، وفصل بها بين عن وما جرته. وهذا من غريب مواضعها. انتهى. وقال الفراء في آخر تفسير سورة الإنسان: قرأ عبد الله: وللظالمين أعد لهم فكرر اللام في الظالمين، وفي لهم. وربما فعلت العرب ذلك. أنشدني بعضهم: الطويل فأصبحن لا يسألنه عن بما به *** أصعد في علو الهوى أم تصوبا فكرر الباء مرتين. ولو قال: لا يسألنه عما به لكان أبين وأجود، ولكن الشاعر ربما زاد، ونقص ليكمل الشعر. انتهى. وعده ابن عصفور كالفراء من ضرائر الشعر، قال: ومنها إدخال الحرف على جهة التأكيد، لاتفاقهما في اللفظ والمعنى، وفي المعنى لا في اللفظ، نحو قول بعض بني أسد: الوافر فلا والله لا يلفى لما بي *** ولا للما بهم أبداً دواء فزاد على لام الجر لاماً أخرى للتأكيد. ونحوه قول الآخر، وأنشده الفراء: الرمل فلئن قوم أصابوا عزة *** وأصبنا من زمان رنقا للقد كنا لدى أزمانن *** لصنيعين لبأس وتقى فزاد على لام لقد لاماً أخرى للتأكيد. ونحوه قول الآخر: فأصبحن لا يسألنه عن بما به ..... البيت فأدخل عن على الباء تأكيداً، لأنهم يقولون: سألت عنه، وسألت به. والمعنى واحد. انتهى. وصعد في الجبل بالتثقيل، إذا علاه. وصعد في الجبل، من باب تعب، لغة قليلة. وصعد في الوادي تصعيداً إذا انحدر. والهواء: ما بين السماء والأرض. والتصوب: النزول. كذا في المصباح. وهذا البيت لم أقف على قائله ولا تتمته. والله أعلم. وأنشد بعده: الوافر لدوا للموت وابنوا للخراب على أن اللام في قوله للموت تسمى لام العاقبة، وهي فرع لام الاختصاص. أقول: تسميتها بلام العاقبة وبلام الصيرورة هو قول الكوفيين، ومثلوه بقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا ، وبقول الشاعر: الطويل فللموت تغذو الوالدات سخاله *** كما لخراب الدور تبنى المساكن وبقول الآخر: المتقارب فإن يكن الموت أفناهم *** فللموت ما تلد الوالده وقال ابن هشام في المغني: وأنكر البصريون ومن تبعهم لام العاقبة. قال الزمخشري: والتحقيق أنها لام العلة، وأن التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة. وبيانه: أنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدواً وحزناً، بل المحبة والتبني. غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له، وثمرته، شبهه بالداعي الذي يفعل الفعل لأجله، فاللام مستعارة لما يشبه التعليل، كما استعير الأسد لمن يشبه الأسد. انتهى. وفهم منه أن اللام في هذه الأبيات للتعليل. وجعلها من فروع الاختصاص أولى، لأن التعليل أيضاً من فروع الاختصاص. وهذا المصراع من أبيات في الديوان المنسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي: الوافر عجبت لجازع باك مصاب *** بأهل وحبيب ذي اكتئاب شقيق الجيب داعي الويل جهل *** كأن الموت كالشيء العجاب وسوى الله فيه الخلق حتى *** نبي الله عنه لم يحاب له ملك يندي كل يوم *** لدوا للموت وابنوا للخراب قال شارح ديوانه حسين الميبذي: المصاب: من أصابته مصيبة. والاكتئاب: الحزن. فإن قلت: الكاف مغنية عن كأن؟ قلت: قال التفتازاني في المطول: إن كأن تستعمل في مقام يظن بثبوت الخبر دون التشبيه. ولام للموت لام العاقبة، وهي فرع لام الاختصاص. انتهى. وحتى: ابتدائية، ونبي الله مفعول مقدم ليحاب بمعنى يخص، كما تقدم مجيئه بهذا المعنى في شعر زهير. ورأيت في الفصول القصار من نهج البلاغة لسيدنا علي رضي الله عنه: إن لله ملكاً ينادي في كل يوم: لدوا للموت، واجمعوا للفناء، وابنو للخراب . ورأيت أيضاً في جمهرة أشعار العرب لمحمد بن أبي الخطاب: قد روي أن بعض الملائكة، قال: لدوا للموت وابنوا للخراب *** فكلكم يصير إلى ذهاب والبيت الثاني هو من أبيات مغني اللبيب، ولم يعرفه شراحه، وهو لسابق البربري. قال ابن عبد ربه في العقد الفريد: وفد عبد العزيز بن زرارة سد أهل الكوفة على معاوية، فخرج مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة فهلك هناك، فكتب به يزيد إلى معاوية، فقال معاوية لأبيه زرارة: أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب! فقال زرارة: يا سيدي هو ابني وابنك؟ قال: بل ابنك. قال: للموت ما تلد الوالدة. أخذه سابق البربري، فقال: وللموت تغذو الوالدات سخالها البيت وتغذو بمعجمتين، من الغذاء، بالكسر والمد: ما به نماء الجسم وقوامه. وغذوت الصبي بالطعام واللبن فاغتذى به. وأما الغداء بالفتح وإهمال الدال فطعام الغدوة، وهو خلاف العشاء. والسخال، بالكسر: جمع سخلة، وهي ولد الشاة من الضأن والمعز، ذكراً كان وأنثى. وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير، إلا أنه باللفظ المرادف، إذ أصل الكلام كما تبنى المساكن لخرابها. وكذا نسبه إلى سابق البربري صاحب كتاب التفسح في اللغة، وقال بعد أن أوردها: إنما ابتنوا دورهم للعمران، وغذوا أولادهم للبقاء لا للفناء، فلما علموا أن المصير إلى الموت والخراب، تركوا الشيء الذي غذوا له أولادهم وابتنوا دورهم، وأخبروا بمصيرهم لذلك، اعتباراً كما قال تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا ، وإنما التقطوه ليكون لهم قرة عين، ولكن الله عز وجل وصف أمره بتصيره إلى ذلك. فهذا على الإخبار بالصيرورة. انتهى. وسابق البربري هو أبو سعيد سابق بن عبد الله. له أشعار حسنة في الزهد. وهو من موالي بني أمية، سكن الرقة، ووفد على عمر بن عبد العزيز، وله معه حكايات لطيفة، روى عنه مكحول، وموسى بن أعين، والمعافي بن عمران وغيرهم. والبربري: نسبة إلى البربر، وهي بلاد كثيرة في المغرب. قال ابن الأثير في الأنساب: ليس سابق منسوباً إلى البربر، وإنما هو لقب له. والبيت الثالث هو من أبيات مغني اللبيب أيضاً. ولم يعرفه شراحه أيضا. وهو من أبيات أورده ابن الأعرابي في نوادره لنهيكة بن الحارث المازني، من مازن فزارة، وهي: لا يبعد الله رب العب *** د والملح ما ولدت خالده هم المطعمو الضيف شحم السن *** م والقاتلو الليلة البارده هم يكسرون صدور الرم *** ح في الخيل تطرد وطارده يذكرني حسن آلائهم *** تفجع ثكلانة فاقده فإن يكن القتل أفناهم *** فللموت ما تلد الوالده انتهى. ونسبه المفضل بن سلمة في كتاب الفاخر لشتيم بن خويلد الفزاري. قال: والملح هنا: البركة. يقال: اللهم لا تبارك فيه، ولا تملحه. وكلاهما جاهليان. وقال أبو الوليد الوقشي فيما كتبه على كامل المبرد على هذا البيت: خالدة: هي بنت أرقم، أم كردم وكريدم ابني شعبة الفزاريين، وكردم هو الذي طعن دريد بن الصمة يوم قتل أخوه عبد الله. وهذا المصراع وقع في شعر عبيد بن الأبرص الجاهلي أيضاً، لما قتله المنذر بن ماء السماء، قال له بعض الحاضرين: ما أشد جزعك للموت!. فقال: المتقارب لا غرو من عيشة نافده *** وهل ير ما ميتة واحده فأبلغ بني وأعمامهم *** بأن المنايا هي الراصده لها مدة فنفوس العباد *** إليها وإن كرهت قاصده فلا تجزعوا لحمام دن *** فللموت ما تلد الوالده ووقع في شعر سماك بن عمرو الباهلي أيضاً، وهو أول من قال: لا أطلب أثراً بعد عين، وهو جاهلي أيضاً. قال لما خير بين أن يقتل هو وأخوه مالك - فقتلوه دون أخيه - من أبيات: فأقسم لو قتلوا مالك *** لكنت لهم حية راصده برأس سبيل على مرقب *** ويوماً على طرق وارده فأم سماك فلا تجزعي *** فللموت ما تلد الوالده وأنشد بعده: فلا والله لا يلفى لما بي *** ولا للما بهم أبداً دواء وتقدم شرحه في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائة في باب المنادى. وأنشد بعده:
|